[size=21]43- عَنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: قَال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((أَلْحِقُوا الْفَرائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا أَبْقَتِ الْفَرائِضُ، فَلأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ)). خرَّجه البُخاريُّ ومُسلمٌ.
(1) هذا الحديثُ الذي زَعَمَ بَعْضُ شُرَّاحِ هذهِ الأربعينَ أنَّ الشيخَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَغْفَلَهُ؛ فإنَّهُ مُشْتَمِلٌ على أحكامِ المواريثِ وَجَامِعٌ لها.
وهذا الحديثُ خَرَّجَاهُ منْ روايَةِ وُهَيْبٍ وَرَوْحِ بنِ القاسمِ عن ابنِ طَاوُوسٍ عنْ أبيهِ عن ابنِ عَبَّاسٍ.
[right]وَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ منْ روايَةِ مَعْمَرٍ وَيَحْيَى بنِ أَيُّوبَ عن ابنِ طَاوُوسٍ أَيْضًا.
وقدْ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ وابنُ عُيَيْنَةَ وابنُ جُرَيْجٍ وغيرُهُم عن ابنِ طَاوُوسٍ عنْ أبيهِ مُرْسَلاً منْ غيرِ ذِكْرِ ابنِ عَبَّاسٍ، وَرَجَّحَ النَّسَائِيُّ إِرْسَالَهُ.
[right]وقد اخْتَلَفَ العلماءُ في معنَى قَوْلِهِ: ((أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا)):
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: المرادُ بالفرائضِ الفُرُوضُ المُقَدَّرَةُ في كتابِ اللَّهِ تَعَالَى، والمُرَادُ: أَعْطُوا الفُرُوضَ المُقَدَّرَةَ لِمَنْ سَمَّاهَا اللَّهُ لهم، فَمَا بَقِيَ بعدَ هذهِ الفروضِ فَيَسْتَحِقُّهُ أَوْلَى الرِّجَالِ، وَالمُرَادُ بالأَوْلَى: الأَقْرَبُ، كما يُقَالُ: هذا يَلِي هَذَا؛ أيْ: يَقْرُبُ منهُ. فَأَقْرَبُ الرجالِ هوَ أَقْرَبُ العَصَبَاتِ، فَيَسْتَحِقُّ الباقِيَ بالتَّعْصِيبِ.
وبهذا المَعْنَى فَسَّرَ الحديثَ جَمَاعَةٌ من الأَئِمَّةِ؛ مِنْهُم الإِمامُ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ بنُ رَاهُويَهْ، نَقَلَهُ عَنْهُمَا إِسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ.
وعلى هذا، فإذا اجْتَمَعَ بِنْتٌ وأُخْتٌ وَعَمٌّ أو ابنُ عَمٍّ أو ابنُ أخٍ، فَيَنْبَغِي أنْ يَأْخُذَ البَاقِيَ بَعْدَ نِصْفِ البنتِ العَصَبُ.
وهذا قولُ ابنِ عَبَّاسٍ، وكانَ يَتَمَسَّكُ بهذا الحديثِ، وَيُقِرُّ بأنَّ الناسَ كُلَّهُم على خِلافِهِ. وَذَهَبَت الظاهِرِيَّةُ إلى قولِهِ أيضًا.
وقالَ إسحاقُ: (إذا كانَ معَ البنتِ وَالأُخْتِ عَصَبَةٌ، فَالْعَصَبَةُ أَوْلَى، وإنْ لمْ يكُنْ مَعَهُمَا أَحَدٌ فالأختُ لها الباقِي).
وحُكِيَ عن ابنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قالَ: (البِنْتُ عَصَبَةُ مَنْ لا عَصَبَةَ لهُ).
ورَدَّ بَعْضُهُم هذا وقالَ: لا يَصِحُّ عن ابنِ مَسْعُودٍ.
وكانَ ابنُ الزُّبَيْرِ وَمَسْرُوقٌ يقولانِ بقولِ ابنِ عَبَّاسٍ، ثمَّ رَجَعَا عنهُ.
وذهبَ جمهورُ العلماءِ إلى أنَّ الأختَ معَ البنتِ عَصَبَةٌ لها ما فَضَلَ؛ مِنْهُم عُمَرُ، وعَلِيٌّ، وعائشةُ، وزَيْدٌ، وابنُ مَسْعُودٍ، ومُعَاذُ بنُ جَبَلٍ، وَتَابَعَهُمْ سَائِرُ العُلَمَاءِ.
وَرَوَى عبدُ الرزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ: سَأَلْتُ ابنَ طَاوُوسٍ عن ابنةٍ وَأُخْتٍ، فقالَ: كانَ أبي يَذْكُرُ عن ابنِ عَبَّاسٍ، عنْ رَجُلٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها شيئًا، وكانَ طَاوُوسٌ لا يَرْضَى بذلكَ الرَّجُلِ، قالَ: وكانَ أَبِي يَشُكُّ فِيهَا، وَلا يَقُولُ فيها شَيْئًا، وقدْ كَانَ يَسْأَلُ عنها.
والظَّاهِرُ -اللَّهُ أَعْلَمُ- أنَّ مُرَادَ طَاوُوسٍ هوَ هذا الحديثُ؛ فإنَّ ابنَ عَبَّاسٍ لمْ يَكُنْ عِنْدَهُ نَصٌّ صَرِيحٌ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ميراثِ الأُخْتِ معَ البنتِ، إنَّمَا كَانَ يَتَمَسَّكُ بِمِثْلِ عُمُومِ هذا الحديثِ.
وَمَا ذَكَرَهُ طَاوُوسٌ أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ رَوَاهُ عنْ رَجُلٍ، وأنَّهُ لا يَرْضَاهُ، فَابْنُ عَبَّاسٍ أَكْثَرُ رِوَايَاتِهِ للحديثِ عن الصحابةِ، والصَّحَابَةُ كُلُّهم عُدُولٌ قدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، فَلا عِبْرَةَ بعدَ ذلكَ بعَدَمِ رِضَا طَاوُوسٍ.
وفي (صحيحِ البخاريِّ): عنْ أبي قَيْسٍ الأَوْدِيِّ، عنْ هُزَيْلِ بنِ شُرَحْبِيلَ قالَ: جاءَ رَجُلٌ إلى أبي مُوسَى فَسَأَلَهُ عن ابْنَةٍ وابْنَةِ ابْنٍ وَأُخْتٍ لأَبٍ وَأُمٍّ، فَقَالَ: للابْنَةِ النِّصْفُ، وَلِلأُخْتِ مَا بَقِيَ، وَائْتِ ابنَ مَسْعُودٍ فَسَيُتَابِعُنِي.
فَأَتَى ابنَ مسعودٍ، فَذَكَرَ ذلكَ لهُ، فَقالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِن الْمُهْتَدينَ، أَقْضِي فِيها بِقَضاءِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِلابْنَةِ النِّصْفُ، وَلابنةِ الابنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقِيَ فَلِلأُخْتِ.
قَالَ: فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسى فَأَخْبَرْنَاهُ بِقولِ ابنِ مسعودٍ، فَقالَ: لا تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الحَبْرُ فِيكُمْ.
وفيهِ أيضًا: عن الأعمشِ، عنْ إبراهيمَ، عن الأسودِ بنِ يَزِيدَ قالَ: (قَضَى فِينَا مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ على عهدِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: النِّصْفُ للابْنَةِ، والنِّصْفُ للأختِ).
ثمَّ تَرَكَ الأَعْمَشُ ذِكْرَ عَهْدِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَذْكُرْهُ.
وَخَرَّجَهُ أبو داودَ منْ وَجْهٍ آخَرَ عن الأسودِ، وَزَادَ فيهِ: وَنَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ حَيٌّ.
وَاسْتَدَلَّ ابنُ عَبَّاسٍ لِقَوْلِهِ بقولِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء:176].
وكانَ يقولُ: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَم اللَّهُ؟! يَعْنِي أنَّ اللَّهَ لمْ يَجْعَلْ لها النصفَ إلا معَ عَدَمِ الولدِ، وأنْتُمْ تَجْعَلُونَ لها النصفَ معَ الولدِ وهوَ البنتُ.
والصوابُ قولُ عُمَرَ والجمهورِ، ولا دَلالَةَ في هذهِ الآيَةِ على خلافِ ذلكَ؛ لأنَّ المرادَ بقولِهِ: {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} : بِالفَرْضِ.
وهذا مَشْرُوطٌ بعَدَمِ الولدِ بالكُلِّيَّةِ؛ ولهذا قالَ بَعْدَهُ: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء:176]، يَعْنِي بالفَرْضِ.
والأختُ الواحدةُ إنَّما تَأْخُذُ النصفَ معَ عدمِ وُجُودِ الولدِ الذَّكَرِ والأُنْثَى. وكذلكَ الأُختانِ فَصَاعِدًا، إنَّما يَسْتَحِقُّونَ الثُّلُثَيْنِ معَ عَدَمِ وُجُودِ الولدِ الذَّكَرِ والأُنْثَى، فإنْ كانَ هُنَاكَ وَلَدٌ، فإنْ كانَ ذَكَرًا فَهُوَ مُقَدَّمٌ على الإِخوةِ مُطْلَقًا ذُكُورِهِم وَإِنَاثِهِم، وإنْ لمْ يكُنْ هُنَاكَ وَلَدٌ ذَكَرٌ، بلْ أُنْثَى، فَالبَاقِي بعدَ فَرْضِهَا يَسْتَحِقُّهُ الأخُ معَ أُخْتِهِ بالاتِّفَاقِ، فإذا كانت الأختُ لا يُسْقِطُهَا أَخُوهَا، فَكَيْفَ يُسْقِطُهَا مَنْ هوَ أَبْعَدُ منهُ من العَصَبَاتِ كالعَمِّ وابْنِهِ، وإذا لمْ يَكُن العَصَبَةُ الأبْعَدُ مُسْقِطًا لها، فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهَا عليهِ؛ لامتناعِ مُشَارَكَتِهِ لها.
فمفهومُ الآيَةِ أنَّ الولدَ يَمْنَعُ أنْ يكونَ للأختِ النِّصْفُ بالفَرْضِ، وهذا حَقٌّ، لَيْسَ مَفْهُومُهَا أنَّ الأُخْتَ تَسْقُطُ بالبِنْتِ، ولا تَأْخُذُ ما فَضَلَ منْ مِيرَاثِهَا، يَدُلُّ عليهِ قولُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء:176].
وقدْ أَجْمَعَت الأُمَّةُ عَلَى أنَّ الولدَ الأُنْثَى لا يَمْنَعُ الأخَ أنْ يَرِثَ مِنْ مالِ أُخْتِهِ ما فَضَلَ عن البنتِ أو البناتِ، وَإِنَّمَا وُجُودُ الولدِ الأُنْثَى يَمْنَعُ أنْ يَحُوزَ الأخُ مِيرَاثَ أُخْتِهِ كُلَّهُ، فَكَمَا أنَّ الولدَ إنْ كانَ ذَكَرًا مَنَعَ الأخَ من الميراثِ، وإنْ كانَ أُنْثَى لمْ يَمْنَعْهُ الفَاضِلَ عنْ مِيرَاثِهَا، وَإِنْ مَنَعَهُ حِيَازَةَ الميراثِ، فكذلكَ الولدُ إنْ كانَ ذَكَرًا مَنَعَ الأختَ الميراثَ بالكُلِّيَّةِ، وإنْ كانَ أُنْثَى مَنَعَت الأُخْتَ أنْ يُفْرَضَ لها النِّصْفُ، ولمْ تَمْنَعْهَا أنْ تَأْخُذَ ما فَضَلَ عنْ فَرْضِهَا، واللَّهُ أَعْلَمُ.
(1) وأمَّا قولُهُ: ((فَمَا أَبْقَتِ الْفَرَائِضُ فَلأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ)).
فقدْ قِيلَ: إنَّ المُرَادَ بهِ الْعَصَبَةُ الْبَعِيدُ خَاصَّةً، كَبَنِي الإِخْوَةِ والأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ، دُونَ العصبةِ القريبِ؛ بدليلِ أنَّ الباقِيَ بَعْدَ الفروضِ يَشْتَرِكُ فيهِ الذَّكَرُ والأُنْثَى إذا كانَ العَصَبَةُ قَرِيبًا، كالأولادِ والإِخوةِ بالاتِّفَاقِ، فكذلكَ الأُخْتُ معَ البِنْتِ بالنَّصِّ الدَّالِّ عليهِ.
وأيضًا، فإنَّهُ يُخَصُّ منهُ هذهِ الصُّوَرُ بالاتِّفَاقِ، ئ وكذلكَ يُخَصُّ مِنْهُ المُعْتَقَةُ مَوْلاةُ النِّعْمَةِ بالاتِّفَاقِ، فَتُخَصُّ منهُ صورةُ الأختِ معَ البنتِ بالنَّصِّ.
وقالَتْ طائفةٌ آخَرُونَ: المرادُ بقولِهِ: ((أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا))، ما يَسْتَحِقُّهُ ذَوُو الفُرُوضِ في الجُمْلَةِ، سَوَاءٌ أَخَذُوهُ بفَرْضٍ أوْ بتَعْصِيبٍ طَرَأَ لهم.
والمرادُ بقولِهِ: ((فَمَا بَقِيَ فَلأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ)) ، العصبةُ الذي ليسَ لهُ فَرْضٌ بحَالٍ؛ وَيَدُلُّ عليهِ أنَّهُ قدْ رُوِيَ الحديثُ بِلَفْظٍ آخَرَ، وهوَ: ((اقْسِمُوا الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ))، فدخلَ في ذلكَ كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الفُروضِ بوَجْهٍ من الوُجُوهِ، وعلى هذا، فَمَا تَأْخُذُهُ الأختُ معَ أخِيهَا، أو ابنِ عَمِّهَا إذا عَصَّبَهَا، هُوَ داخلٌ في هذهِ القِسْمَةِ؛ لأنَّها مِنْ أهلِ الفرائضِ في الجُمْلَةِ، فكذلكَ ما تَأْخُذُهُ الأُخْتُ معَ البِنْتِ.
وقالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: المُرَادُ بأهْلِ الفرائضِ في قولِهِ: ((أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا))، وقولِهِ: ((اقْسِمُوا الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ))، جُمْلَةُ مَنْ سَمَّاهُ اللَّهُ في كتابِهِ منْ أهلِ المَوَارِيثِ منْ ذَوِي الفُرُوضِ والعَصَبَاتِ كُلِّهم؛ فإنَّ كلَّ ما يَأْخُذُهُ الوَرَثَةُ فهوَ فَرْضٌ فَرَضَهُ اللَّهُ لهم، سَوَاءٌ كانَ مُقَدَّرًا أوْ غَيْرَ مُقَدَّرٍ، كَمَا قالَ بعدَ ذِكْرِ مِيرَاثِ الوالِدَيْنِ والأولادِ: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء:11]، وفيهم ذُو فَرْضٍ وعَصَبَةٌ. وَكَمَا قالَ: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:7]، وهذا يَشْمَلُ الْعَصَبَاتِ وَذَوِي الفُرُوضِ.
فكذلكَ قَوْلُهُ: ((اقْسِمُوا الْفَرَائِضَ بَيْنَ أَهْلِهَا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ))، يَشْمَلُ قِسْمَتَهُ بينَ ذَوِي الفُروضِ والعَصَبَاتِ على ما في كتابِ اللَّهِ، فإنْ قُسِمَ على ذلكَ ثمَّ فَضَلَ منهُ شيءٌ، فَيَخْتَصُّ بالفاضلِ أَقْرَبُ الذكورِ مِن الورثةِ، وكذلكَ إنْ لمْ يُوجَدْ في كتابِ اللَّهِ تَصْرِيحٌ بِقِسْمَتِهِ بَيْنَ مَنْ سَمَّاهُ اللَّهُ من الورثةِ، فيكونُ حِينَئِذٍ المَالُ لأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ مِنْهُمْ.
فَهَذَا الحديثُ مُبَيِّنٌ لِكَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ المواريثِ المذكورةِ في كتابِ اللَّهِ بينَ أَهْلِهَا، وَمُبَيِّنٌ لِقِسْمَةِ ما فَضَلَ من المالِ عنْ تلكَ القسمةِ مِمَّا لَمْ يُصَرَّحْ بهِ في القرآنِ مِنْ أحوالِ أُولَئِكَ الورثةِ وَأَقْسَامِهِم، وَمُبَيِّنٌ أَيْضًا لِكَيْفِيَّةِ توريثِ بَقِيَّةِ العَصَبَاتِ الذينَ لمْ يُصَرَّحْ بِتَسْمِيَتِهِمْ في القرآنِ.
فإذا ضُمَّ هذا الحديثُ إلى آياتِ القرآنِ انْتَظَمَ ذلكَ كُلُّهُ مَعْرِفَةَ قِسْمَةِ المَوَارِيثِ بَيْنَ جَمِيعِ ذَوِي الفُرُوضِ والعَصَبَاتِ.
ونحنُ نَذْكُرُ حُكْمَ تَوْرِيثِ الأولادِ والوَالِدَيْنِ كما ذَكَرَهُ اللَّهُ في أوَّلِ سورةِ النساءِ، وَحُكْمَ توريثِ الإِخوةِ من الأَبوَيْنِ، أوْ مِن الأبِ، كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ في آخِرِ السورةِ المذكورةِ.
فأمَّا الأولادُ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء:11].
فهذا حُكْمُ اجْتِمَاعِ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ، أنَّهُ يكونُ للذَّكَرِ منهم مِثْلُ حظِّ الأُنْثَيَيْنِ.
وَيَدْخُلُ في ذلكَ الأولادُ وأولادُ البَنِينَ باتِّفَاقِ العلماءِ.
فَمَتَى اجْتَمَعَ الأولادُ إِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ اقْتَسَمُوا الميراثَ على هذا الوجهِ عندَ الأَكْثَرِينَ.
فلوْ كانَ هناكَ بِنْتٌ للصُّلْبِ أو ابْنَتَانِ، وكانَ هُنَاكَ ابنُ ابْنٍ معَ أُخْتِهِ، اقْتَسَمَا البَاقِيَ أَثْلاثًا؛ لِدُخُولِهِم في هذا العُمُومِ.
هذا قَوْلُ جُمْهُورِ العلماءِ؛ منهم عمرُ وعَلِيٌّ وزيدٌ وابنُ عبَّاسٍ. وذَهَبَ إليهِ عامَّةُ العلماءِ والأَئِمَّةُ الأرْبَعَةُ.
وذَهَبَ ابنُ مسعودٍ إلى أنَّ الباقِيَ بعدَ استكمالِ بناتِ الصُّلْبِ الثُّلُثَيْنِ كُلَّهُ لابنِ الابنِ، ولا يُعَصِّبُ أُخْتَهُ.
وهوَ قولُ عَلْقَمَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ وأهلِ الظاهرِ، فلا يُعَصِّبُ عِنْدَهُم الولدُ أُخْتَهُ، إلا أَنْ يَكُونَ لها فَرِيضَةٌ لو انْفَرَدَتْ عنهُ.
فكذلكَ قَالُوا فيما إذا كانَ هناكَ بِنْتٌ وَأَوْلادُ ابْنٍ ذُكُورٌ وإناثٌ: إنَّ الباقيَ لجميعِ ولدِ الابنِ، للذَّكَرِ منهم مثلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ.
وقالَ ابنُ مسعودٍ في بنتٍ وبناتِ ابنٍ وَبَنِي ابنٍ: (للبنتِ النِّصْفُ، والبَاقِي بينَ ولدِ الابنِ، للذَّكَرِ مثلُ حظِّ الأُنْثَيَيْنِ، إلا أنْ تَزِيدَ المُقَاسَمَةُ بَنَاتِ الابنِ على السُّدُسِ، فَيُفْرَضُ لَهُنَّ السُّدُسُ، وَيُجْعَلُ الباقِي لِبَنِي الابنِ، وهوَ قولُ أبي ثَوْرٍ).
وأمَّا الجمهورُ فَقَالُوا: النصفُ الباقِي لوَلَدِ الابنِ، للذَّكَرِ مثلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ؛ عَمَلاً بِعُمُومِ الآيَةِ.
وعندَهُم أنَّ الولدَ وإنْ نَزَلَ يُعَصِّبُ مَنْ في دَرَجَتِهِ بكُلِّ حالٍ، سَوَاءٌ كانَ للأُنْثَى فَرْضٌ بدُونِهِ أوْ لمْ يكُنْ، ولا يُعَصِّبُ مَنْ أَعْلَى منهُ من الإِناثِ إلا بشَرْطِ أنْ لا يَكُونَ لها فَرْضٌ بِدُونِهِ، ولا يُعَصِّبُ مَنْ أَسْفَلَ منهُ بكلِّ حالٍ.
ثُمَّ قالَ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}.
فهذا حُكْمُ انْفِرَادِ الإِنَاثِ من الأولادِ، أنَّ للواحدةِ النِّصْفَ، وَلِمَا فَوْقَ الاثْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَيَدْخُلُ في ذلكَ بَنَاتُ الصُّلْبِ وبناتُ الابنِ عندَ عَدَمِهِنَّ، فإن اجْتَمَعْنَ فإن اسْتَكْمَلَ بناتُ الصُّلْبِ الثُّلُثَيْنِ فَلا شيءَ لبناتِ الابنِ المُنْفَرِدَاتِ، وإنْ لمْ يَسْتَكْمِل البناتُ الثُّلُثَيْنِ، بلْ كانَ وَلَدُ الصُّلْبِ بِنْتًا وَاحِدَةً وَمَعَهَا بناتُ ابنٍ، فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، ولبناتِ الابنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ؛ لِئَلا يَزِيدَ فَرْضُ البناتِ على الثُّلُثَيْنِ.
وبهذا قَضَى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديثِ ابنِ مسعودٍ الذي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وهوَ قولُ عامَّةِ العلماءِ، إلا ما رُوِيَ عنْ أبي مسعودٍ وَسَلْمَانَ بنِ رَبِيعَةَ، أنَّهُ لا شَيْءَ لبَنَاتِ الابنِ، وقدْ رَجَعَ أَبُو موسَى إلى قولِ ابنِ مسعودٍ لَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُهُ في ذلكَ.
وإنَّمَا أُشْكِلَ على العلماءِ حُكْمُ مِيرَاثِ البِنْتَيْنِ؛ فإنَّ لَهُمَا الثُّلُثَيْنِ بالإِجماعِ كَمَا حَكَاهُ ابنُ المُنْذِرِ وغيرُهُ.
وما حُكِيَ فيهِ عن ابْنِ عَبَّاسٍ أنَّ لَهُمَا النِّصْفَ، فقدْ قيلَ: إنَّ إِسْنَادَهُ لا يَصِحُّ، والقُرْآنَ يَدُلُّ على خلافِهِ؛ حيثُ قالَ: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء:11]، فكيفَ تُوَرَّثُ أَكْثَرُ منْ واحدةٍ النِّصْفَ؟ وحديثُ ابنِ مَسْعُودٍ في توريثِ البنتِ النِّصْفَ وبنتِ الابنِ السُّدُسَ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ يَدُلُّ على توريثِ البِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ بِطَرِيقِ الأَوْلَى.
وَخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُ وأبو داودَ والتِّرْمِذِيُّ منْ حديثِ جابرٍ، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَّثَ ابْنَتَيْ سَعْدِ بنِ الرَّبيعِ الثُّلُثَيْنِ.
ولكنْ أُشْكِلَ فَهْمُ ذلكَ من القرآنِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ}؛ فلِهَذَا اضْطَرَبَ الناسُ في هذا، وقالَ كثيرٌ من الناسِ فيهِ أَقْوَالاً مُسْتَبْعَدَةً.
ومنهم مَنْ قالَ: استُفِيدَ حُكْمُ ميراثِ الابْنَتَيْنِ منْ ميراثِ الأُخْتَيْنِ؛ فإنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ}، واستُفِيدَ حُكْمُ ميراثِ أكْثَرَ مِن الأُخْتَيْنِ منْ حُكْمِ مِيرَاثِ ما فَوْقَ الاثْنَتَيْنِ.
ومنهم مَنْ قالَ:
البِنْتُ معَ أَخِيهَا لها الثُّلُثُ بِنَصِّ القرآنِ، فلأَنْ يَكُونَ الثُّلُثُ معَ أُخْتِهَا أَوْلَى.
وَسَلَكَ بَعْضُهم مَسْلَكًا آخَرَ، وهوَ أنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ حُكْمَ تَوْرِيثِ اجتماعِ الذُّكورِ والإِناثِ من الأولادِ، وذَكَرَ حُكْمَ تَوْرِيثِ الإِناثِ إذا انْفَرَدْنَ عن الذُّكورِ، ولمْ يَنُصَّ على حُكْمِ انفرادِ الذكورِ منهم عن الإِناثِ، وَجَعَلَ حُكْمَ الاجتماعِ أنَّ الذَّكَرَ لهُ مثلُ حظِّ الأُنْثَيَيْنِ، فإن اجْتَمَعَ معَ الابنِ ابْنَتَانِ فَصَاعِدًا فَلَهُ مثلُ نَصِيبِ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ، وإنْ لمْ يَكُنْ مَعَهُ إلا ابنةٌ واحدةٌ فَلَهُ الثُّلُثَانِ ولها الثُّلُثُ، وقدْ سَمَّى اللَّهُ ما يَسْتَحِقُّهُ الذَّكَرُ حَظَّ الأُنْثَيَيْنِ مُطْلَقًا، وليسَ الثُّلُثَانِ حَظَّ الأُنْثَيَيْنِ في حالِ اجْتِمَاعِهِمَا معَ الذَّكَرِ؛ لأنَّ حَظَّهُمَا حِينَئِذٍ النِّصْفُ، فَتَعَيَّنَ أنْ يكونَ الثُّلثانِ حَظَّهُمَا حالَ الانفرادِ.
وبَقِيَ هَا هُنَا قِسْمٌ ثالثٌ لمْ يُصَرِّح القرآنُ بذِكْرِهِ، وهوَ حُكْمُ انْفِرَادِ الذُّكُورِ من الولدِ.
وهذا مِمَّا يُمْكِنُ إِدْخَالُهُ في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ: ((فَمَا بَقِيَ فَلأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ))؛ فإنَّ هذا القِسْمَ قَدْ بَقِيَ ولمْ يُصَرَّحْ بِحُكْمِهِ في القرآنِ، فيكونُ المَالُ حينئذٍ لأَِقْرَبِ الذكورِ مِن الولدِ، والأمرُ على هذا؛ فإنَّهُ لو اجْتَمَعَ ابنٌ وابنُ ابنٍ لكانَ المالُ كُلُّهُ للابنِ، ولوْ كانَ ابنُ ابنٍ وابنُ ابنِ ابنٍ لكانَ المالُ كُلُّهُ لابنِ الابنِ على مُقْتَضَى حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
ثم ذَكَرَ تَعَالَى حُكْمَ ميراثِ الأبوَيْنِ فقالَ: {وَلأَِبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}.
فهذا حُكْمُ ميراثِ الأبوَيْنِ إذا كانَ للولدِ المُتَوَفَّى ولدٌ، وَسَوَاءٌ في الولدِ الذَّكَرُ والأُنْثَى، وَسَوَاءٌ فيهِ ولدُ الصُّلْبِ وولدُ الابنِ، هذا كالإِجْمَاعِ من العلماءِ.
وقدْ حَكَى بَعْضُهُم عنْ مُجَاهِدٍ فيهِ خلافًا، فَمَتَى كانَ للْمَيِّتِ وَلَدٌ، أوْ ولدُ ابنٍ، ولهُ أَبَوَانِ، فَلِكُلِّ واحدٍ منْ أَبَوَيْهِ السُّدُسُ فَرْضًا، ثمَّ إنْ كانَ الولدُ ذَكَرًا فالباقِي بعدَ سُدُسَي الأبوَيْنِ لهُ.
وَرُبَّمَا دَخَلَ هذا في قولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ)) وَأَقْرَبُ العَصَبَاتِ الابنُ.
وإنْ كانَ الولدُ أُنْثَى، فإنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَصَاعِدًا فالثُّلُثَانِ لَهُنَّ، ولا يَفْضُلُ مِن المالِ شَيْءٌ، وإنْ كانتْ بِنْتًا واحدةً فلَهَا النِّصْفُ، وَيَفْضُلُ مِن المالِ سُدُسٌ آخَرُ، فَيَأْخُذُهُ الأبُ بالتَّعْصِيبِ؛ عَمَلاً بقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ))، فهوَ أَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ عندَ فَقْدِ الابنِ؛ إذْ هوَ أَقْرَبُ من الأخِ وابنِهِ، والعَمِّ وَابْنِهِ.
ثمَّ قالَ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ}، يَعْنِي: إذا لَمْ يَكُنْ للمَيِّتِ ولدٌ، ولهُ أَبَوَانِ يَرِثَانِهِ، فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ، فَيُفْهَمُ منْ ذلكَ أنَّ الباقِيَ بَعْدَ الثُّلُثِ للأبِ؛ لأنَّهُ أَثْبَتَ مِيرَاثَهُ لأَِبَوَيْهِ، وَخَصَّ الأُمَّ من الميراثِ بالثُّلُثِ، فَعُلِمَ أنَّ الباقِيَ للأبِ، ولمْ يَقُلْ: فللأَبِ -مَثَلاً- ما للأُمِّ؛ لِئَلا يُوهَمَ أَنَّ اقْتِسَامَهُمَا المالَ هوَ بالتَّعْصِيبِ كالأولادِ والإِخوةِ إذا كانَ فيهم ذكورٌ وإناثٌ.
وكانَ ابنُ عبَّاسٍ يَتَمَسَّكُ بهذهِ الآيَةِ لقولِهِ في المَسْأَلَتَيْنِ المُلَقَّبَتَيْنِ بالعُمَرِيَّتَيْنِ، وَهُمَا:
زَوْجٌ وأَبَوَانِ، وزوجةٌ وأَبَوَانِ؛ فإنَّ عُمَرَ قَضَى أنَّ الزَّوْجَيْنِ يأْخُذانِ فَرْضَهُما من المالِ، وما بَقِيَ بعدَ فَرْضِهِمَا في المَسْأَلَتَيْنِ، فللأُمِّ ثُلُثُهُ، والباقِي للأَبِ، وَتَابَعَهُ على ذلكَ جمهورُ الأُمَّةِ.
وقالَ ابنُ عَبَّاسٍ: بلْ للأُمِّ الثُّلُثُ كَامِلاً؛ تَمَسُّكًا بقولِهِ: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ}.
وقدْ قِيلَ في جَوَابِ هذا: إنَّ اللَّهَ إنَّمَا جَعَلَ للأُمِّ الثُّلُثَ بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أنْ لا يكُونَ لِلْوَلَدِ المُتَوَفَّى ولدٌ.
والثاني: أنْ يَرِثَهُ أَبَوَاهُ؛ أيْ: أنْ يَنْفَرِدَ أَبَوَاهُ بِمِيرَاثِهِ، فما لَمْ يَنْفَرِدْ أَبَوَاهُ بِمِيرَاثِهِ فلا تَسْتَحِقُّ الأمُّ الثُّلُثَ، وإنْ لمْ يكُنْ للمُتَوَفَّى وَلَدٌ.
وقدْ يُقَالُ، وهوَ أَحْسَنُ: إنَّ قولَهُ: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ}؛ أيْ: مِمَّا وَرِثَهُ الأَبَوَانِ، ولمْ يَقُلْ: فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ مِمَّا تَرَكَ، كما قالَ في السُّدُسِ.
فالمَعْنَى: أنَّهُ إذا لمْ يَكُنْ لهُ وَلَدٌ، وكانَ لأَبَوَيْهِ مِنْ مالِهِ مِيرَاثٌ، فللأُمِّ ثُلُثُ ذلكَ الميراثِ الذي يَخْتَصُّ بهِ الأبوانِ، وَيَبْقَى الباقِي للأبِ.
ولهذا السِّرِّ، واللَّهُ أَعْلَمُ، حيثُ ذَكَرَ اللَّهُ الفُرُوضَ المُقَدَّرَةَ لأَِهْلِهَا، قالَ فيها: {مِمَّا تَرَكَ}، أوْ ما يَدُلُّ على ذلكَ، كقولِهِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}؛ لِيُبَيِّنَ أنَّ ذَا الفَرْضِ حَقُّهُ ذَلِكَ الْجُزْءُ المفروضُ المُقَدَّرُ لهُ منْ جميعِ المالِ بعدَ الوَصَايَا والدُّيُونِ، وحيثُ ذَكَرَ مِيرَاثَ العَصَبَاتِ، أوْ ما يَقْتَسِمُهُ الذُّكُورُ والإِناثُ على وجهِ التَّعْصِيبِ كالأولادِ والإِخوةِ، لمْ يُقَيِّدْهُ بِشَيْءٍ منْ ذلكَ؛ لِيُبَيِّنَ أنَّ المالَ المُقْتَسَمَ بالتَّعْصِيبِ ليسَ هوَ المالَ كُلَّهُ، بلْ تَارَةً يَكُونُ جميعَ المالِ، وتارةً يكونُ هوَ الفَاضِلَ عن الفُروضِ المفروضةِ المُقَدَّرَةِ.
وهُنا لَمَّا ذَكَرَ مِيرَاثَ الأبوَيْنِ منْ وَلَدِهِمَا الذي لا وَلَدَ لهُ، ولمْ يَكُن اقْتِسَامُهُمَا للمِيرَاثِ بالفَرْضِ المَحْضِ، كَمَا في مِيرَاثِهِمَا معَ الولدِ، ولا كانَ بالتَّعْصِيبِ المَحْضِ الذي يُعَصِّبُ فيهِ الذَّكَرُ الأُنْثَى، ويَأْخُذُ مِثْلَيْ مَا تَأْخُذُهُ الأُنْثَى، بلْ كانَت الأُمُّ تَأْخُذُ ما تَأْخُذُهُ بالفَرْضِ، والأبُ يَأْخُذُ ما يَأْخُذُهُ بالتَّعْصِيبِ، قالَ: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ}، يَعْنِي أنَّ القَدْرَ الذي يَسْتَحِقُّهُ الأَبَوَانِ مِنْ مِيرَاثِهِ تَأْخُذُ الأُمُّ ثُلُثَهُ فَرْضًا، والباقِيَ يَأْخُذُهُ الأبُ بالتَّعْصِيبِ.
وهذا مِمَّا فَتَحَ اللَّهُ بهِ، وَلا أَعْلَمُ أَحَدًا سَبَقَ إليهِ، وللَّهِ الحمدُ والمِنَّةُ.
ثُمَّ قالَ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُِمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}، يعنِي: للأُمِّ السُّدسُ معَ الإِخوةِ مِنْ جميعِ التَّرِكَةِ الموروثةِ التي يَقْتَسِمُهَا الورثةُ، ولم يَذْكُرْ هنا ميراثَ الأبِ معَ الأمِّ.
ولا شَكَّ أنَّهُ إذا اجْتَمَعَ أُمٌّ وإخوةٌ ليسَ مَعَهُمْ أَبٌ؛ فَإِنَّ للأُمِّ السُّدُسَ، والباقِيَ للإِخوةِ، وَيَحْجُبُهَا الأخوانِ فَصَاعِدًا عندَ الجمهورِ.
وأمَّا إنْ كانَ معَ الأُمِّ والإِخوةِ أبٌ، فقالَ الأكثرونَ: يَحْجُبُ الإِخوةُ الأُمَّ ولا يَرِثُونَ.
وَرُوِيَ عن ابنِ عَبَّاسٍ أنَّهُم يَرِثُونَ السُّدسَ الذي حَجَبُوا عنهُ الأُمَّ بالفَرْضِ، كما يَرِثُ وَلَدُ الأُمِّ مَعَ الأُمِّ بالفَرْضِ.
وقدْ قِيلَ: إنَّ هذا مَبْنِيٌّ على قولِهِ: إنَّ الْكَلالَةَ مَنْ لا وَلَدَ لهُ خَاصَّةً، ولا يُشْتَرَطُ للكَلالةِ فَقْدُ الوالدِ، فَيَرِثُ الإِخوةُ معَ الأبِ بالفَرْضِ.
ومِن العلماءِ المُتَأَخِّرِينَ مَنْ قالَ:
إذا كانَ الإِخْوَةُ مَحْجُوبِينَ بالأبِ، فلا يَحْجُبُونَ الأُمَّ عنْ شَيْءٍ، بلْ لها حِينَئِذٍ الثُّلثُ.
ورجَّحَهُ الإمامُ أبو العبَّاسِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحْمَةُ اللَّهِ عليهِ، وقدْ يُؤْخَذُ منْ عُمُومِ قولِ عُمَرَ وغيرِهِ من السَّلفِ: مَنْ لا يَرِثُ لا يَحْجُبُ، وَقَدْ قالَ نَحْوَهُ أَحْمَدُ والخِرَقِيُّ.
لكنَّ أَكْثَرَ العلماءِ يَحْمِلُونَ ذلكَ على أنَّ المُرَادَ مَنْ ليسَ لهُ أَهْلِيَّةُ الميراثِ بالكُلِّيَّةِ، كالكافرِ والرقيقِ، دُونَ مَنْ لا يَرِثُ؛ لانْحِجَابِهِ بِمَنْ هوَ أَقْرَبُ منهُ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
وقدْ يَشْهَدُ للقولِ بأنَّ الإِخوةَ إذا كانُوا مَحْجُوبِينَ لا يَحْجُبُونَ الأُمَّ، أنَّ اللَّهَ تَعَالَى قالَ: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُِمِّهِ السُّدُسُ}، ولمْ يَذْكُر الأبَ، فَدَلَّ على أنَّ ذلكَ حُكْمُ انفرادِ الأمِّ معَ الإِخوةِ، فيكونُ الباقِي بعدَ السُّدُسِ كُلُّهُ لَهُم. وهذا ضَعِيفٌ؛ فإنَّ الإِخوةَ قَدْ يَكُونُونَ منْ أُمٍّ، فلا يَكُونُ لهم سِوَى الثُّلُثِ، واللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
واعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَر حُكْمَ ميراثِ الأبوَيْنِ، ولمْ يَذْكُر الجَدَّ ولا الجَدَّةَ. فَأَمَّا الجَدَّةُ، فقدْ قالَ أبو بكرٍ الصدِّيقُ وَعُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: إنَّهُ لَيْسَ لَهَا في كتابِ اللَّهِ شيءٌ.
وقدْ حَكَى بَعْضُ العلماءِ الإِجماعَ على ذلكَ، وأنَّ فَرْضَهَا إِنَّمَا ثَبَتَ بالسُّنَّةِ.
وَقِيلَ: إنَّ السُّدُسَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَهَا رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليسَ بفَرْضٍ، كذا رُوِيَ عن ابنِ مسعودٍ وسعيدِ بنِ المُسَيِّبِ.
وقدْ رُوِيَ عن ابنِ عَبَّاسٍ منْ وُجُوهٍ فيها ضَعْفٌ أنَّها بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ، عِنْدَ فَقْدِ الأُمِّ تَرِثُ مِيرَاثَ الأمِّ، فَتَرِثُ الثُّلُثَ تَارَةً، والسُّدُسَ أُخْرَى، وهذا شُذُوذٌ، ولا يَصِحُّ إِلْحَاقُ الجَدَّةِ بالجَدِّ؛ لأنَّ الجَدَّ عَصَبَةٌ يُدْلِي بعَصَبَةٍ، والجَدَّةَ ذَاتُ فَرْضٍ تُدْلِي بِذَاتِ فَرْضٍ فَضَعُفَتْ.
وقدْ قِيلَ: إنَّهُ ليسَ لها فَرْضٌ بالكُلِّيَّةِ، وإنَّمَا السُّدُسُ طُعْمَةٌ أَطْعَمَهَا النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولهذا قالَتْ طائفةٌ مِمَّنْ يَرَى الرَّدَّ على ذَوِي الفُروضِ: إنَّهُ لا يُرَدُّ على الجَدَّةِ؛ لِضَعْفِ فَرْضِهَا.
وهوَ رِوَايَةٌ عنْ أحمدَ.
وأمَّا الجَدُّ، فَاتَّفَقَ العلماءُ على أنَّهُ يَقُومُ مقامَ الأبِ في أحوالِهِ المذكورةِ منْ قَبْلُ، فَيَرِثُ معَ الولدِ السُّدُسَ بالفَرْضِ، ومعَ عدَمِ الولدِ يَرِثُ بالتَّعْصِيبِ، وإنْ بَقِيَ شيءٌ معَ إناثِ الولدِ أَخَذَهُ بالتَّعْصِيبِ أَيْضًا؛ عَمَلاً بِقَوْلِهِ: ((فَمَا أَبْقَتِ الْفَرَائِضُ فَلأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ)).
ولكن اخْتَلَفُوا إذا اجْتَمَعَ أُمٌّ وَجَدٌّ معَ أحدِ الزوجَيْنِ، فَرُوِيَ عنْ طائفةٍ من الصَّحابةِ أنَّ للأُمِّ ثُلُثَ الباقِي، كما لوْ كانَ معها الأبُ كَمَا سَبَقَ.
رُوِيَ ذلكَ عنْ عُمَرَ وابنِ مسعودٍ، كذا نَقَلَهُ بَعْضُهم.
ومنْهُم مَنْ قَالَ: إنَّمَا رُوِيَ عنْ عُمَرَ وابنِ مسعودٍ في زَوْجٍ وأُمٍّ وجَدٍّ، أنَّ لِلأُمِّ ثُلُثَ الباقِي.
ورُوِيَ عن ابنِ مسعودٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ النِّصْفَ الفَاضِلَ بَيْنَ الجَدِّ والأُمِّ نِصْفَانِ.
وأَمَّا في زَوْجَةٍ وأُمٍّ وَجَدٍّ، فَرُوِيَ عن ابنِ مسعودٍ رِوَايَةٌ شاذَّةٌ: أنَّ للأُمِّ ثُلُثَ الباقِي.
والصَّحيحُ عنهُ كقولِ الجمهورِ: إنَّ لهَا الثُّلثَ كَامِلاً، وهذا يُشْبِهُ تَفْرِيقَ ابنِ سِيرِينَ في الأُمِّ معَ الأبِ، أنَّهُ إنْ كانَ مَعَهُمَا زَوْجٌ فلِلأُمِّ ثُلُثُ البَاقِي، وإنْ كَانَ مَعَهُمَا زَوْجَةٌ فَلِلأُمِّ الثُّلُثُ.
وجُمْهُورُ العلماءِ على أنَّ الأُمَّ لَهَا الثُّلُثُ معَ الجَدِّ مُطْلَقًا، وهُوَ قولُ عَلِيٍّ وزيدٍ وابنِ عَبَّاسٍ.
والفَرْقُ بينَ الأُمِّ معَ الأَبِ وَمَعَ الجَدِّ أنَّهَا معَ الأبِ يَشْمَلُهَا اسْمٌ واحدٌ، وَهُمَا في القُرْبِ سَوَاءٌ إلى المَيِّتِ، فَيَأْخُذُ الذَّكَرُ مِنْهُمَا مِثْلَ حظِّ الأُنْثَى مَرَّتَيْنِ كالأولادِ والإِخوةِ، وأمَّا الأُمُّ مَعَ الجَدِّ فَلَيْسَ يَشْمَلُهَا اسمٌ واحدٌ، والجَدُّ أَبْعَدُ من الأبِ، فلا يَلْزَمُ مُسَاوَاتُهُ بهِ في ذلكَ.
وأمَّا إن اجْتَمَعَ الجَدُّ معَ الإِخْوَةِ، فإنْ كَانُوا لأُِمٍّ سَقَطُوا بهِ؛ لأنَّهُم إنَّما يَرِثُونَ مِن الكَلالةِ.
والكَلالَةُ: مَنْ لا وَلَدَ لَهُ ولا وَالِدَ، إلا رِوَايَةً شَذَّتْ عن ابنِ عَبَّاسٍ.
وأمَّا إنْ كَانُوا لأَبٍ أوْ لأَِبَوَيْنِ، فقد اخْتَلَفَ العلماءُ في حُكْمِ مِيرَاثِهِم قَدِيمًا وَحَدِيثًا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ أَسْقَطَ الإِخوةَ بالجَدِّ مُطْلَقًا، كَمَا يَسْقُطُونَ بالأبِ، وهذا قَوْلُ الصِّدِّيقِ وَمُعَاذٍ وابنِ عَبَّاسٍ وغيرِهِم.
وَاسْتَدَلُّوا بأنَّ الجَدَّ أبٌ في كتابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فَيَدْخُلُ في مُسَمَّى الأبِ في المواريثِ، كما أنَّ وَلَدَ الولَدِ وَلَدٌ، وَيَدْخُلُ في مُسَمَّى الوَلَدِ عندَ عَدَمِ الولدِ بالاتِّفاقِ، وبأنَّ الإِخوةَ إِنَّمَا يَرِثُونَ معَ االكَلالةِ، فَيَحْجُبُهُم الجدُّ كَالإِخوةِ من الأبِ، وبأنَّ الجدَّ أَقْوَى من الإِخوةِ؛ لاجْتِمَاعِ الفَرْضِ والتَّعْصِيبِ لهُ منْ جهةٍ واحدةٍ، فهوَ كالأَبِ، وحينئذٍ فَيَدْخُلُ في عُمُومِ قولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَمَا بَقِيَ فَلأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ)).
ومنهم مَنْ شَرَّكَ بَينَ الإِخْوَةِ والجَدِّ، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ من الصحابةِ وَأَكْثَرِ الفُقَهَاءِ بَعْدَهُم، على اختلافٍ طويلٍ بينَهُم في كَيْفِيَّةِ التشريكِ بينَهم في الميراثِ. وكانَ مِن السَّلَفِ مَنْ يَتَوَقَّفُ في حُكْمِهِم ولا يُجِيبُ فيهم بشيءٍ؛ لاشْتِبَاهِ أَمْرِهِم وَإِشْكَالِهِ.
ولَوْلا خَشْيَةُ الإِطالةِ لَبَسَطْنَا القولَ في هذهِ المسألةِ، وَلَكِنْ ذلكَ يُؤَدِّي إِلَى الإِطَالَةِ جِدًّا.
وأمَّا حُكْمُ مِيرَاثِ الإِخْوَةِ لِلأَبَوَيْنِ أوْ للأَبِ، فقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى في آخِرِ سورةِ النساءِ في قولِهِ تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء:176].
والكَلالةُ مَأْخُوذَةٌ منْ تَكَلُّلِ النَّسَبِ وإِحَاطَتِهِ بالمَيِّتِ، وذلكَ يَقْتَضِي انتفاءَ الانْتِسَابِ مُطْلَقًا من العَمُودَيْنِ الأَعْلَى والأسفلِ.
وَتَنْصِيصُهُ تَعَالَى على انتفاءِ الولدِ تَنْبِيهٌ على انتفاءِ الوالدِ بطريقِ الأَوْلَى؛ لأنَّ انْتِسَابَ الولدِ إلى والدِهِ أَظْهَرُ من انتسابِهِ إلى وَلَدِهِ، فكانَ ذِكْرُ عدَمِ الولدِ تَنْبِيهًا على عدَمِ الوالدِ بطريقِ الأَوْلَى.
وقدْ قَالَ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ: الكَلالَةُ: (مَنْ لا وَلَدَ لهُ ولا والِدَ).
وَتَابَعَهُ جمهورُ الصحابةِ والعلماءِ بعْدَهُم.
وقدْ رُوِيَ ذلكَ مَرْفُوعًا منْ مَرَاسِيلِ أبي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
خَرَّجَهُ أبو دَاوُدَ في (المراسيلِ)، وَخَرَّجَهُ الحَاكِمُ منْ رِوَايَةٍ عنْ أبي سَلَمَةَ عنْ أبي هُريرةَ مَرْفُوعًا، وَصَحَّحَهُ، وَوَصْلُهُ بِذِكْرِ أبي هُريرةَ ضَعِيفٌ.
فقولُهُ: {إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ}، يَعْنِي: إذا لَمْ يَكُنْ للمَيِّتِ وَلَدٌ بالكُلِّيَّةِ لا ذَكَرٌ وَلا أُنْثَى، فللأُخْتِ حينئذٍ النِّصْفُ مِمَّا تَرَكَ فَرْضًا.
وَمَفْهُومُ هذا أنَّهُ إذا كانَ لهُ وَلَدٌ فليسَ للأُخْتِ النِّصْفُ فَرْضًا.
ثُمَّ إنْ كانَ الوَلَدُ ذَكَرًا فَهُوَ أَوْلَى بالمالِ كُلِّهِ؛ لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ في ميراثِ الأولادِ الذُّكورِ إذا انْفَرَدُوا؛ فإنَّهُمْ أَقْرَبُ العَصَبَاتِ، وهُمْ يُسْقِطُونَ الإِخوةَ، فكيفَ لا يُسْقِطُونَ الأخواتِ؟
وأيضًا، فقدْ قَالَ تَعَالَى:{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}.
وهذا يَدْخُلُ فيهِ ما إذا كانَ هُنَاكَ ذُو فَرْضٍ كالبَنَاتِ وغيرِهِنَّ، فإذا اسْتَحَقَّ الفاضِلَ ذُكُورُ الإِخوةِ معَ الأخواتِ، فإذا انْفَرَدُوا فكذلكَ يَسْتَحِقُّونَهُ، وَأَوْلَى.
وَإِنْ كانَ الولدُ أُنْثَى فَلَيْسَ للأختِ هنا النِّصْفُ بالفَرْضِ، ولكنْ لَهَا الباقِي بالتَّعْصِيبِ عندَ جمهورِ العلماءِ.
وقدْ سَبَقَ ذِكْرُ ذلكَ والاختلافُ فيهِ، فلوْ كانَ هناكَ ابنٌ لا يَسْتَوْعِبُ المالَ وأُخْتٌ، مِثْلُ ابنٍ نِصْفُهُ حُرٌّ عِنْدَ مَنْ يُوَرِّثُهُ نِصْفَ الميراثِ، وهُوَ مَذْهَبُ الإِمامِ أحمدَ وَغَيْرِهِ من العلماءِ، فَهَلْ يُقَالُ: إنَّ الابنَ هنا يُسْقِطُ نِصْفَ فَرْضِ الأُخْتِ، فَتَرِثُ مَعَهُ الرُّبعَ فَرْضًا، أَمْ يُقَالُ: إنَّهُ يَصِيرُ كَالبِنْتِ، فَتَصِيرُ الأختُ مَعَهُ عَصَبَةً، كَمَا تَصِيرُ معَ الأُخْتِ، لَكِنَّهُ يُسْقِطُ نِصْفَ تَعْصِيبِهَا فَتَأْخُذُ معهُ النِّصفَ الباقِيَ بالتعصيبِ، هذا مُحْتَمَلٌ، وفي هذهِ المسألةِ لأَِصْحَابِنَا وَجْهَانِ.
وقولُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ}، يَعْنِي أنَّ الأخَ يَسْتَقِلُّ بميراثِ أُخْتِهِ إذا لمْ يكُنْ لها وَلَدٌ ذَكَرٌ أوْ أُنْثَى، فإنْ كانَ لها وَلَدٌ ذَكَرٌ فهوَ أَوْلَى مِن الأخِ بِغَيْرِ إِشْكَالٍ؛ فإنَّهُ أَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ.
وإنْ كانَ أُنْثَى فَالبَاقِي بعدَ فَرْضِهَا يكُونُ للأخِ؛ لأنَّهُ أَوْلَى رجُلٍ ذَكَرٍ، ولَكِنْ لا يَسْتَقِلُّ بمِيراثِهَا حينئذٍ، كما إذا لمْ يكُنْ لهَا ولَدٌ.
وقولُهُ: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ}، يعنِي: أنَّ فَرْضَ الثِّنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، كَمَا أنَّ فَرْضَ الواحدةِ النِّصْفُ. فهذا كُلُّهُ في حُكْمِ انفرادِ الإِخوةِ والأخواتِ.
وأمَّا حُكْمُ اجْتِمَاعِهِم، فقدْ قالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}. فَيَدْخُلُ في ذَلِكَ ما إذا كَانُوا مُنْفَرِدِينَ، وَأَمَّا إذا كانَ هُنَاكَ ذُو فَرْضٍ مِن الأولادِ أوْ غَيْرِهِم، كأحدِ الزَّوْجَيْنِ أو الأُمِّ أو الإِخوةِ من الأُمِّ، فيكونُ الفَاضِلُ عنْ فُرُوضِهِم للإِخوةِ والأخواتِ بينَهُم للذَّكَرِ مِثْلُ حظِّ الأُنْثَيَيْنِ.
فقدْ تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أنَّ وُجُودَ الولدِ إِنَّمَا يُسْقِطُ فَرْضَ الأخَوَاتِ مِن الأبوَيْنِ أو الأَبِ، ولا يُسْقِطُ تَوْرِيثَهُنَّ بالتَّعصيبِ معَ أخواتِهِنَّ بالإِجماعِ، ولا تَعْصِيبَهُنَّ بانْفِرَادِهِنَّ معَ البناتِ عندَ الجمهورِ، فالْكَلالةُ شَرْطٌ لِثُبُوتِ فَرْضِ الأخواتِ، لا لِثُبُوتِ مِيرَاثِهِنَّ، كما أنَّهُ ليسَ بشَرْطٍ لميراثِ ذُكُورِهِم بالإِجماعِ.
وهذا بخلافِ ولدِ الأمِّ؛ فإنَّ انْتِفَاءَ الكَلالَةِ أَسْقَطَتْ فُرُوضَهم، وإذا أَسْقَطَتْ فُرُوضَهم سَقَطَتْ مَوَارِيثُهُم؛ لأنَّهُ لا تَعْصِيبَ لهم بحَالٍ؛ لإَِّدْلائِهِم بِأُنْثَى. والأخواتُ للأبوَيْنِ أوْ للأبِ يُدْلُونَ بذَكَرٍ، فَيَرِثْنَ بالتَّعصيبِ معَ إِخْوَتِهِنَّ بالاتِّفاقِ، وبانْفِرَادِهِنَّ معَ البناتِ عندَ الجمهورِ.
وإذا كانَ الولدُ مُسْقِطًا لِفَرْضِ ولدِ الأبوَيْنِ، أو الأبِ دُونَ أصْلِ تَوْرِيثِهِمْ بِغَيْرِ الفَرْضِ، فقدْ يُقَالُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا خَصَّ انْتِفَاءَ الولدِ في قولِهِ: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ}، ولمْ يَذْكُر انْتِفَاءَ الوالدِ أو الأبِ؛ لأَِنَّهُ كانَ يَدْخُلُ فيهِ الجَدُّ، والجَدُّ لا يُسْقِطُ ميراثَ الإخوةِ بالكُلِّيَّةِ، وإنَّمَا يَشْتَرِكُونَ معَهُ في الميراثِ تَارَةً بالفَرْضِ، وتارةً بغَيْرِهِ، وهذا على قولِ مَنْ يقولُ: إنَّ الجدَّ لا يُسْقِطُ الإِخوةَ -وهُم الجُمْهُورُ- ظاهِرٌ.
وهذا كُلُّهُ في انفرادِ ولدِ الأبوَيْنِ أو الأبِ، فإن اجْتَمَعُوا فإنَّ العَصَبَاتِ مِنْ ولدِ الأبوَيْنِ يُسْقِطُونَ ولدَ الأبِ كُلَّهُم بِغَيْرِ خِلافٍ، حتَّى في الأُخْتِ مِن الأَبَوَيْنِ معَ البنتِ عندَ مَنْ يَجْعَلُهَا عَصَبَةً يُسْقِطُ بها الأخَ من الأبوَيْنِ.
وفي (المُسْنَدِ) و(التِّرْمِذِيِّ) و(ابنِ مَاجَهْ): عنْ عَلِيٍّ قالَ: قَضَى رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَعْيَانَ بَنِي الأُمِّ يَرِثُونَ دُونَ بَنِي العَلاتِ، يَرِثُ الرَّجُلُ أَخَاهُ لأَِبِيهِ وَأُمِّهِ دُونَ أَخِيهِ لأَِبِيهِ.
وقالَ عَمْرُو بنُ شُعَيْبٍ: قَضَى رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ الأخَ للأبِ والأمِّ أَوْلَى بالكَلالةِ بالميراثِ، ثُمَّ الأخَ للأبِ.
وهذا أَيْضًا مِمَّا يَدْخُلُ في قولِهِ عليهِ السلامُ: ((فَمَا بَقِيَ فَلأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ)).
والتحقيقُ في ذلكَ: أَنَّ كُلَّ مَا دَلَّ عليهِ القرآنُ، ولوْ بالتَّنْبِيهِ، فليسَ هوَ مِمَّا أَبْقَتْهُ الفرائضُ، بلْ هوَ منْ إلْحَاقِ الفرائضِ المذكورةِ في القرآنِ بِأَهْلِهَا، كَتَوْرِيثِ الأولادِ ذُكُورِهِم وإناثِهِم الفَاضِلَ عن الفُروضِ للذَّكَرِ مثلُ حظِّ الأُنْثَيَيْنِ، وتوريثِ الإِخوةِ ذُكُورِهِم وإناثِهِم كذلكَ.
وَدَلَّ ذلكَ بطريقِ التَّنبيهِ على أنَّ الباقيَ يَأْخُذُهُ الذَّكَرُ منهم عندَ الانفرادِ بطريقِ الأَوْلَى، وَدَلَّ أَيْضًا بالتَّنْبِيهِ على أنَّ الأُخْتَ تَأْخُذُ الباقِيَ معَ البنتِ كما كانتْ تَأْخُذُهُ معَ أَخِيهَا، ولا يُقَدَّمُ عليها مَنْ هُوَ أَبْعَدُ منها، كابنِ الأخِ والعمِّ وابْنِهِ؛ فإنَّ أَخَاهَا إذا لمْ يُسقِطْهَا فكيفَ يُسْقِطُهَا مَنْ هُوَ أبعدُ منهُ؟ فهذا كُلُّهُ مِنْ بابِ إِلْحَاقِ الفرائضِ بأهلِهَا، ومِنْ بابِ قِسْمَةِ المالِ بينَ أهلِ الفرائضِ على كِتَابِ اللَّهِ.
وأَمَّا مَنْ لمْ يُذْكَرْ بِاسْمِهِ مِن العَصَبَاتِ في القرآنِ، كابنِ الأخِ والعمِّ وابْنِهِ، وإنَّما دَخَلَ في عُمُومَاتٍ مِثْلِ قولِهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال:75]، وقولِهِ: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء:33]، فهذا يُحْتَاجُ في تَوْرِيثِهِم إلى هذا الحديثِ، أَعْنِي حديثَ ابنِ عَبَّاسٍ، فإذا لمْ يُوجَدْ للمالِ وَارِثٌ غَيْرَهُم انْفَرَدُوا بهِ، وَيُقَدَّمُ منهم الأقربُ فالأقربُ؛ لأنَّهُ أَوْلَى رجُلٍ ذَكَرٍ، وإنْ وُجِدَتْ فُرُوضٌ لا تَسْتَغْرِقُ المالَ، كَأَحَدِ الزوجَيْنِ أو الأُمِّ أوْ وَلَدِ الأمِّ، أوْ بناتٍ مُنْفَرِدَاتٍ، أوْ أَخَوَاتٍ مُنْفَرِدَاتٍ، فالباقِي كُلُّهُ لأَِوْلَى ذَكَرٍ منْ هؤلاءِ، ولهذا لوْ كانَ هؤلاءِ إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً لاخْتَصَّ بهِ رِجَالُهُم دُونِ نسائِهم.
بخلافِ الأولادِ والإِخوةِ؛ فإنَّهُ يَشْتَرِكُ في الباقِي، أوْ في المالِ كُلِّهِ، ذُكُورُهُم وإناثُهُم بنصِّ القرآنِ.
والحديثُ إنَّمَا دَلَّ على توريثِ العَصَبَاتِ الذينَ يَخْتَصُّ ذُكُورُهُم دونَ إناثِهِم، وهُم مَنْ عَدَا الأولادِ والإِخوةِ، فهذا حُكْمُ العَصَباتِ المذكورِينَ في كتابِ اللَّهِ وفي حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ.
وأمَّا ذَوُو الفُروضِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ مَوَارِيثِهِم، ولمْ يَبْقَ مِنهم إلا الزَّوْجَانِ والإِخوةُ للأُمِّ.
فأمَّا الزوجانِ، فَيَرِثَانِ بسببِ عَقْدِ النِّكَاحِ.
ولَمَّا كانَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ من الأُلْفَةِ والمَوَدَّةِ والتَّناصُرِ والتَّعَاضُدِ ما بينَ الأقاربِ، جُعِلَ مِيرَاثُهُمَا كَمِيرَاثِ الأقاربِ، وجُعِلَ للذَّكَرِ منهما مِثْلا مَا للأُنْثَى؛ لامْتِيَازِ الذَّكَرِ على الأُنْثَى بمزيدِ النَّفعِ بالإِنفاقِ والنُّصْرَةِ.
وَأَمَّا وَلَدُ الأمِّ، فَإِنَّهُم لَيْسُوا منْ قَبِيلَةِ الرَّجُلِ، ولا عَشِيرَتِهِ، وإنَّما هُم في المعنَى منْ ذَوِي رَحِمِهِ، فَفَرَضَ اللَّهُ لِوَاحِدِهِم السُّدُسَ، ولجماعَتِهِم الثُّلثَ صِلَةً، وَسَوَّى بينَ ذُكُورِهِم وإناثِهِم؛ حيثُ لمْ يكُنْ لذَكَرِهِم زيادةٌ على أُنْثَاهُم في الحياةِ من المُعَاضَدَةِ والمُنَاصَرَةِ، كما بَيْنَ أهْلِ القبيلةِ والعشيرةِ الواحدةِ، فَسَوَّى بينَهُم في الصِّلةِ؛ ولهذا لمْ تُشْرَع الوَصِيَّةُ ل[/size]